صراع الحضارات

مقال تحليلي رائع حول صراع الحضارات للكاتب الجزائري : فارس بوزينه


    في أواخر القرن الماضي، و لما كان المعسكرين ينفضان يديهما من حرب باردة أرهقت أعصاب العالم بأسره. و بينما كان الجميع يستنشق النسمات الأولى لأمل اسمه العالم الجديد ، أطل على العالم المنظر الأمريكي صامويل هاتنغتون الذي يعتبر من بين كبار مؤطري السياسة الأمريكية بمقالته الشهيرة ''صراع الحضارات'' التي نشرها في مجلة ''فورين افيرز'' سنة 1993 ، و التي كانت رداً مباشراً على أطروحة طالبه فرانسيس فوكوياما المعنونة ب '' نهاية التاريخ والإنسان الأخير'' .
              ولما كانت مقالة هاتنغتون ردا سريعا على فوكوياما، فان تبني الولايات المتحدة لطرح هاتنغتون جاء سريعا أيضا سرعة عدائيها في سباقات السرعة و التتابع. نعم كان التبني سريعا لان الولايات المتحدة الأمريكية لا تترك عربة القيادة لأي كان، حتى لو كان أقرب حلفائها. هي من يقود و هي من يرهق كبار العالم الذين جعلت منهم عربات تحاول تتبع أثر قاطراتها مما يحول دون قدرة تلك الدول على بلورة نظرة جديدة من أجل بناء نظام عالمي جديد.
                و بما أن مكانة أمريكا تسهل عليها تطويع ما تشاء نظير قوتها السياسية، الإعلامية، الاقتصادية و العسكرية لا سيما و أن روسيا كانت قد بدأت آنذاك تدفع جزءا من أجور موظفيها بكيلوغرامات البطاطس و البصل و أوروبا تجمع أجزائها و تشرع لحرية التنقل بمدينة شنغن اللكسمبورغية ، مما جعل الفرصة مواتية لإدارة بوش لحضن نظرية هاتنغتون و جعل الحرب على العراق أول فراخها.
                   كان هذا الإسقاط السريع لفكرة أستاذ جامعة هارفارد سببا في ظهوره بمظهر نبي السياسة الأخير لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين و واحد و التي جعل منها تحققا لنبوءته التي تقوم على فكرة أن الصراع في النظام العالمي الجديد ليس صراعا بين الشيوعية و الرأسمالية و لكنه صراع بين الإيديولوجيات الدينية أي صراع حضاري و هو الصراع الذي جعله صراعا بين الحضارة الإسلامية و الحضارة الغربية المتمثلة في أوروبا و أمريكا.
              كانت أفكار مدعي النبوة السياسية غداءا دسما للكثير من السياسيين المتطرفين و المناضلين الراديكاليين و الكثير من الإعلاميين، كما كانت مشروعا جيدا لتجميل بعض مواقع الفشل السياسي و الاقتصادي هنا و هناك، فجعلوا من مغالطة هاتنغتون كتابا مقدسا جعلهم يؤمنون بوجود حرب مقدسة اسمها حرب الحضارات خاصة في ظل الحروب التي يشهدها العالم مؤخرا في الشرق الأوسط الكبير و العمليات الإرهابية التي ترتكب في الدول الغربية باسم الدين الإسلامي.
                    و لكن و انطلاقا مما جاء به الملاك الأسود الأمريكي ، هل للحضارة دين ؟ و هل يمكن أن تكون الحرب مقدسة؟
                    أعتقد جازما دون تردد و دون تفكير طويل أن الحضارة لم يكن لها دين و لا يمكن أن يكون لها دين . و إني وإن كنت مخطئا و سبق أن وجد دين للحضارة فان هذا الدين لا بد أن يكون الإنسانية بكرامتها و قيمها، لأن الحضارة بناء إنساني لا دين له و لا طعم و لا رائحة .
                 نعم الحضارة بناء إنساني مشترك ، بناه الإنسان ولا زال يبنيه، إذ شاركت الإنسانية كلها في وضع كل العلوم و النهوض بها ، فلا الطب عربي و لا الجبر غربي و إنما هي مسارات حضارية شارك فيها الكل من عرب و عجم و من هم بلا ملل.
                    و لم يسبق أن وجد في كتب الحضارة أن الدين من مقوماتها. فلا نجد لهذا المفهوم أثرا لا في كتب مالك بن نبي و لا في بحوث أرنولد توانبي. و إنما ما نجده هو أن الحضارة يبنيها الإنسان مع الزمن فوق التراب .
                    و إذا أخذنا زاوية أخرى فدون شك فان إنسان اليوم و لو نظريا فقط لا فرق بينه و بين آخر بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو الفكري و أن عالم اليوم يضمن حرية الفكر و المعتقد، فكيف يمكن أن نجعل للحضارة دين ؟ و كيف ل هاتنغتون و من يتبع فكرته أن يقولوا بهذا و هم يعيشون في عالم غربي علماني جعل من الدولة كيانا دون دين فكيف يكون للحضارة دين؟
                        إن الحروب في الشرق الأوسط الكبير لم تكن يوما حروبا دينية لأنها كانت في مجملها بين المسلمين أنفسهم : من حرب عراقية إيرانية، إلى عراقية كويتية، إلى حرب بين السوريين ، أو بين اليمنيين أو الليبيين ، إنها حروب صنعت اغلبها الديكتاتورية و الديكتاتوريين و مصالح الغربيين و لم تكن يوما حربا دينية لأنها حروب بين أبناء الدين الواحد.
الحضارة لا دين لها ، و لكن لها بعد إنساني حمله الرازي و ابن سينا و باستور في الطب ، وشيدت بناياتها أهرام مصر و حدائق بابل و ركح روما و برج إيفل و ناطحات مانهاتن و دبي و نور أدبها المتنبي و تولستوي و هيجو و ميتشل و عزف ألحانها بيتهوفن و موزار و زرياب.
فهل للحضارة دين ؟ و هل هناك حرب مقدسة؟ لا دين للحضارة و لا قدسية إلا للإنسان ، لا قدسية إلا للسلام و متى كانت للحرب غير اللعنة و الموت و الدمار و الخراب و الرابح فيها خاسر ، فأين هي قدسية الحرب ؟
اليوم يعيش القبطي مع المسلم في مصر و المسيحي مع المسلم و اليهودي في لبنان و ألمانيا و فرنسا و أمريكا و المغرب و السلافي مع الصربي  في ارويا و الهوتو مع التوتسي في إفريقيا، هده هي الحضارة الإنسانية بثقافات مختلفة تتعايش طالما أن حقنة البنسلين لا تسأل عن دين من يأخذها.